بعد أن قضينا من عشاءنا في الهيلتون أتجه بنا أبو مساعد - رضي الله عنه - إلى الكويت القديمة أو مايسمى (الديرة ) فتجولنا فيها ، ولكننا رأينا أن هذا المكان لابد وأن يزار نهاراً ، وبعد أن شربنا الشاي في مقهىً يكتض بالناس غادرنا المكان عازمين على العودة إليه في ضحى اليوم التالي .
نهضنا في ذلك الصباح الجميل فأخبرنا أبو مساعد أنه تلقى أقتراح بأن نتناول أفطارنا في مطعم ( بزه ) وهذا الأسم مأخوذ من التراث الكويتي كأسم نسائي كان له حضور في مجتمع الكويت على غرار ( قماشة ) ومن ينسى قماشة ذلك المسلسل الدرامي الأبداعي الذي كان حديث الساعة .
وأعتقد أن إسم ( بزه ) وأرتباط سلسلة مطاعم بزه بالأفطار يعطي دلالة بمدى أرتباط تحضير الأفطار بالنساء وخاصةً كبار السن ، وفي مطعم البزه الذي وجدناه شبه مزدحم بالرأي الناعم الذي يشكل فيه الأغلبية ( المتحدثة ) ، جلسنا ثلاثتنا ورضيت لأول مره أن أكون من ضمن الأقلية الصامتة !
في ( بزه ) كل الأواني والديكورات توحي لك بأنك تجلس في التاريخ ، لولا أصوات (الموبايلات ) التي ترن حولك وتقطع شريط العودة إلى حياة الماضي ، الأفطار شهيٌ تتناوله الذائقة ، وتستمتع به الحواس ، ويبعث في النفس شوقاً لأيام الزمن الجميل .
-----
آثار الغزو الغاشم ... إن القرصان وأن لبسوا أطرأ الاشياء هم القرصُان !
يقف وكأنه يتحدث ، صامت وكأنه ينصت لصخبٍ لاليترجمه بل ليحاول أستيعابة ، كأنه فيلسوف لايعبأ الناس برأية رغم مايمتلك من الحكمة والتجربة لذلك فأنه لايشعر بوحشة المكان وأن أشتكى جور الزمان ، إلا أنه لازال يكن للكويت كل معروف ، ذاك هو قصر الشيخ خزعل الكعبي ، حين كانتا الكويت وبوشهر يربط بينهما البحر كجسرٍ في حديقة ، مينائين عربيين ، وبنو كعب هناك يحفظون للخليج عروبته من قبل الضفة الشرقية وآل الصباح هنا يمدون للعرب جسوراً من التواصل فرضها الواقع السياسي ووحدة المصير ، ذهبت دولة خزعل ، وبقي قصر الأمير الكعبي شاهداً على تلك الحقبة ، ولكن جاء مدعو العروبة الذين حاربوا من أغتصب أحواز خزعل لاليرمموا القصر بل ليشوهوه بقذايف المدافع ، ليقتلوا العروبة بأدعاء العروبة ، وليكونوا نواباً عند أعداء خزعل من حيث يعلمون أو لا يعلمون ! وكأنهم ينتقمون من التاريخ ، ومن الجغرافيا ، أنها بربرية الغزاة ، وأخلاق الديماغوجية الموتورة ، ورغم ذلك بقي قصر خزعل الكعبي يقاوم الزمن كمقاومة أبناء الأحواز للحفاظ على هويتهم ، وأسعدني جداً حين قررت وزارة الثقافة الكويتية ترميم القصر ، لأن إهمال الأثار النادرة كأهمال الكتاب النادر آحادي النسخة .
تركنا القصر الأثري وأتجهنا نحو سوق البلد القديم ( المباركية ) أوقفنا السيارة وترجلنا نحو مسجد أبن بحر لأداء صلاة الظهر وهذا المسجد من أقدم مساجد الكويت ، أعيد ترميمة قبل سنوات ، لفت انتباهي أن المحلات لم تغلق بأكملها نصف الأبواب مغلقةً فقط ، برغم أن الذين يعملون في هذه المحلات من العمالة الوافدة الأ أن التقليد الكلاسيكي لازال حياً في وجدان المكان ، لم نر شيخاً بجواره عسكري يأمر الناس بالذهاب إلى الصلاة !!ولم نكد ننتهي من الوضؤ حتى أقيمت الصلاة ، فلا التزام هنا بتوقيت الأوقاف لأن المسجد في سوق والجميع يحيطون بالمسجد ، والسوق فيه مصالح الناس ، ودين الأسلام دينٌ مرن وليس جامداً ولايخضع لمن يريد أن يجمده ، الجمود في العقول فقط .
أنتهينا من الصلاة فأومأ اليّ فقيه الرُخص صديقي الشاعر - بأن نصلي العصر - وماأسرعني إلى فقه الرخص .. جمعنا الفرضين وخرجنا الى شارع الغربللي وهو من أقدم شوارع ( الديرة ) ومنه الى شارع الدهلة وسوق الخضار القديم وسوق السمك ،
وشارع ( القت ) هنا رائحة الخليج تختلط رائحة الأسماك برائحة العود الهندي الذي وصل الى هذا الأرض منذ مئات السنين حين كانت التجارة بين الهند والكويت كالحبل السري الذي تغذي كل جهةٍ به الجهة الأخرى .
في هذا المكان يجلس في أماكن متفرقة شيوخٌ مسنون لايبيعون ولا يشترون بل وأكثرهم صامت ، لايقطع صمته إلا رد التحية بأجمل منها ، إن كانت الأسواق مرتبطةٌ بالواقع وحمى المنافسة التجارية فأنها بالنسبة لهؤلاء لاتعيش في أيديهم ولكنها تعيش في وجدانهم ، ولا تجذب أطماعم بقدر ماتداعب ذكرياتهم ، أتوا إلى هذا المكان ليستعيدوا بعض شبابٍ فقد ، وذكريات طمستها الأيام ،وأناس ٍ غيبتهم الأقدار
وحبب أوطان الشباب إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا !
هؤلاء المتأملون يفلسفون تأملهم بطريقتهم لم يخضعوا لمقولة ( جول دو غوتييه حين قال : على الحنين إلى الماضي الحقيقي أن يكون دائماً خصباً وأن يصدر إصداءً جديدة أفضل ) لأنهم لأيملون على الذاكرة إرادتهم ، ولا هي تفرض عليهم ماتريده مساحة تأملاتهم .
هؤلاء المتأملون يفلسفون تأملهم بطريقتهم لم يخضعوا لمقولة ( جول دو غوتييه حين قال : على الحنين إلى الماضي الحقيقي أن يكون دائماً خصباً وأن يصدر إصداءً جديدة أفضل ) لأنهم لأيملون على الذاكرة إرادتهم ، ولا هي تفرض عليهم ماتريده مساحة تأملاتهم .
ليسوا مع الناس وأن كانوا يعيشون بين الناس ، لم يأتوا إلى مكانٍ خالٍ من البشر لينادوا ويجيبهم صدى المكان بل أنهم آتوا إلى مكانٍ صاخب يضيع فيه حتى صدى أصواتهم !.
في وسط الديرة هناك مبنى صغير عليه لوحةً تذكارية ذاك هو ( كشك مبارك الصباح ) وقد يتبادر إلى الأذهان بأن هذا كالأكشاك المتعارف عليها والتي تقدم بعض المأكولات والمشروبات ، ولكن هذا الكشك كان يقدم خدمات عامة ،، مجانية بمعنى أنه مكتب إرتباط للأمارة يجلس فيه الشيخ مبارك الصباح لأدارة شؤون السوق وفض المنازعات بين التجار بعضهم البعض وبين العملاء ، وغيرها من المشكلات التي أرتبطت بالمجتمع .
وقد تم ترميم هذا المعلم التاريخي برغبة من سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد وتم إلانتهاء من المشروع في٢٣ مارس ٢٠١١م .
بأشراف مباشر من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، وبما أن الشي بالشي يذكر فأنني مدان لهذا المجلس بالكثير من المعروف فهو يقوم بدور كبير في ترجمة الآداب العالمية ولدي الآن في مكتبتي العديد من الكتب والروايات ولولا الله ثم هذا الصرح الأبداعي لما حصلت عليها بهذه الأسعار التي لاتكلف أفطار ساندوتش في مطعم شعبي ، وهذه من المميزات التي تسجل للكويت .
في أثناء جولة الديرة لفت أنتباهي تخصص بعض العمالة فالأيرانيون مثلاً متخصصون في بيع التمر ، والمصريون في المقاهي ، والهنود في سوق الأسماك ، وأما العمال الأيرانيون فأنهم حالة خاصة حتى وهم على بسطة البيع وفي قلب الكويت فأنك ترى توتر ( طهران ) ظاهراً على ملامحهم وتصرفاتهم .!
بعد هذه الجولة الثرية أتجهنا إلى أبراج الكويت وأقترح أبو مساعد - حفظه الله - أن نتناول قهوتنا في مقهى البرج فتوقفت وسألته أي دائرة الكبيرة أم الصغيرة ؟ فقال في أعلى دائرة فأصابني الخوف ولكني جاملت وتظاهرت بالموافقة والحماس إلا أني من الداخل أخشى الأماكن المرتفعة فأنا منذ الصغر كان لايعتمد على في تسلق أشجار اللوز وأكتفي بتجميعة من على الأرض ! وبدأت أفكر في حالة الدوار التي ستصيبني وكيف سأتعامل مع الموقف ولكن فور وصولنا الى الباب أخبرنا الحارس أن المكان مغلق للصيانة ! فسأله أبن العم أبو مساعد : ومتى سينتهي فأجاب الحارس على الفور : بعد سنه ! كنايةً عن البيروقراطية أو كانت سرعته تعبر عن أجابة الملول الذي يكرر هذه العبارة لكل زائر !
وتنفست الصعداء وقلت بارك الله في هذه البيروقراطية التي أنقذتني من هذا المكان الشاهق ، ليت لي في كل موقف مخيف مخلصاً بيروقراطياً !
وبما أن البرج مغلق أتجه بنا أبو مساعد إلى أحد المقاهي القريبة من البرج ، وعلى أصوات طيور النورس ، وشغبها ، وهدؤ البحر تناولنا ألذ قهوةٍ ، وأستمتعنا باجمل الآجواء وأعذب الحديث .
في اللقاء القادم : ديوانيات الكويت مجالس وجلساء !!