٤ / ديوانيات الكويت ... مجالسٌ وجلساء .
بعد أن تناولنا القهوة بجوار أبراج الكويت ، عرج بنا أبو مساعد إلى ( مسقط رأسه ) أي المستشفى الأمريكاني وسكن الممرضات كما يسمى في الكويت ، ويعد الآن من المعالم التاريخية ، ولقد أنشيء هذا المركز الطبي لغرض ٍ ظاهرة أنساني وباطنه عقائدي ،لتنطلق منه حملات التبشير ( التنصير ) وبقي المستشفى يقدم خدماته الطبية وبقي الكويتيون على عقيدتهم يركبون البحر وهم يرددون ( (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) لم تخُتطف عقيدتهم العميقة كعمق البحر الذي يركبونه في رحلات المكابدة المرتبطة بالتوكل على الواحد الذي لاثاني له . ولم يتوقف الغربيون عن مهامهم الطبية حتى وجدوا أن النهضة الكويتية تجاوزت أمكاناتهم فبقي المكان آثراً تأريخياً شاهداً على توحيد هؤلاء الناس . وفي هذه الجولة رأينا قصر دسمان الذي أرتبط بأسرة آل الصباح والرمز السياسي لأدارة الحكم الكويتية ، وأيضاً قصر السيف التأريخي .
وفي دولة تعتبر مضرب مثل للتعايش الديني تقف ( الكنيسة ) غير مستوحشة ولا خائفة وكأنها تفسر ( لا إكراه في الدين ) ذلك التفسير العملي الذي لايكتفي بالألفاظ ، وتدبيج العبارات .
أستهلينا جولة المساء بمكتبة العروبة وهي دار نشر ضخمة يمتلكها النحويُ البارع الدكتور خالد بن عبدالكريم الميعان - شافاه الله -
والدكتور خالد عضو في رابطة الأدباء الكويتيين منذ عام 1970م وتولى رئاسة تحرير مجلة "البيان" التي تصدرها الرابطة لمدة عامين ؛ وعضواً في جمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت منذ 1984م وتولى رئاسة الجمعية 6 سنوات ، وانتدب مديراً لمعهد المخطوطات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (جامعة الدول العربية) لمدة أربع سنوات ، وعمل عضواُ في كل من : المجلس العلمي الاستشاري لجامعة الكويت ؛ ولجنة تشجيع المؤلفات الكويتية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ؛ ولجنة الرقابة على المطبوعات التابعة لوزارة الاعلام ، وقد شارك الدكتور خالد في عدة مؤتمرات وندوات علمية في دولة الكويت وحلب وباكستان وغيرها ، وله كثير من المؤلفات والبحوث ، ويعد من أبرز اللغويين والنحويين العرب المعاصرين .
ولقد تعرضت مكتبة دار العروبة قبل شهور لحريقٍ أتى على ثلثها تقريباً . والمكتبة ذاكرة الأمة وحين تفقد جزء منها فأن الأمة تفقد جزء من ذاكرتها ، ومصائب إحتراق المكتبات وأحراقها من أعظم المصائب التي تتعرض لها أمةٌ من الأمم ، لقد أغرق هولاكو جزء من ذاكرتنا في بلاد الرافدين ، وأحرق خيمينس الأحمق الجزء الأخر في الأندلس فردوسنا المفقود ، ولكن مكتبة دار العروبة محظوطةٌ كونها في الكويت - التي يدعم حكامها صروح الثقافة والعلم والفكر بكل كرم وبدون تردد.
وللحق فأن دار العروبة مكتبةٌ ثريةٌ ويديرها المحامي المثقف الأستاذ عماد جاسم أبو راشد ، ووجدنا من العاملين فيها حفاوة كبيرة وكأنهم حين عاشوا بين الكتب أخذوا صفة الكتاب وأصبحوا خير جلساء في خير مكان ، ووجدت فيها عناوين كنت أبحث عنها في مكتبات جده والرياض ولم أجدها ، فكأني عثرت على كنز ، ومن العناوين التي حضيت بالحصول عليها رواية ديستوفسكي مهانون ومذلون ، روايتا أيزابيلا الليندي الجزيرة تحت البحر وحصيلة الأيام ...و هنري ميللرالكتب في حياتي ، والأعمال الكاملة لأمل دنقل ، ورسالة في اللاهوت والسياسة للمفكر العظيم سبينوزا ، وغيرها من الكتب التي كنت أبحث عنها كمصدر ورقي متكامل .لعدم قناعتي الكاملة في الكتب المحملة الكترونياً .
قيل أن ننهي زيارتنا لمكتبة دار العروبة سجلت كلمةً تضمنت بيتين من الشعر :
تزايد العلم وتوهج شبوبه
............فكر ورصانه واهتمام وحقائق
تجمّعت في قلب دار العروبة
.............و توقدت حتى وصارت حرائق !
من دار العروبة توجهنا إلى ديوانية المهندس وليد بن محمد الغزالي ، ووجدنا من أبي خالد ومن الحاضرين كل الحفاوة والتقدير ، كان الوقت بعد العشاء حيث موعد لقاء الديوانية ، يتحدث الجميع عن أحداث الساعة - ليست الساعة الآخرة - بل الأحداث الحاضرة . والديوانيات في الكويت - حسب تصنيف أبي مساعد - تاخذ عدة صور فهناك ديوانيات كبار السن تعقد من بعد المغرب إلى العشاء ، ثم ديوانيات المنتصفين في اعمارهم أي الستينيون والخمسينيون وبعض الأربعينيين وتعقد ساعة بعد العشاء ، وهناك ديوانيات الشباب وهي لاتلتزم بوقت محدد فقد تستمر إلى الفجر وقد تتجاوز الفجر وقد تعمل مدار الوقت .
وبما أن الساحة الكويتية ساحةً ساخنة - سياسياً - والسياسة في الكويت ليست من الصغائر ولا الكبائر الموبقات كبعض البلدان ! لذلك فأن الديوانيات غالباً ماتكون لمناقشة الواقع السياسي وتتباين فيها الآراء وتتفق بصيغة ديالكتيكية مرنه ، وديناميكية لاتظهر فيها لغة الأقصاء .
أما من حيث الموقع فأن الديوانية تاخذ مكانها في السرداب ، أو البدروم كما يسمى في بعض البلدان ، ولكنها ليست سراديب ولا ملاجيء بل أنها واجهة حضارية متميزة ، فحين يرتبط السرداب بحالتي الفزع والخوف ففي الكويت يرتبط السرداب بمكان الأجتماع الآمن الجميل والكرم الأجمل .
غادرنا ديوانية المهندس وليد الغزالي ، وكان أبو مساعد على إتفاق مع أبنيه الكريمين مساعد ونافع وزوج أبنته المهندس طارق ، أتفقوا على أن نتناول العشاء في فندق ( رويال ) في منطقة ( بنيد القار ) وكلمة بنيد يعود أصلها إلى كلمة ( بندر ) والمقصود به المينا ، ومع مرور الزمن تم تصغير كلمة بندر ألى بنيدر ومنها إلى بنيد ! و في فندق رويال ببنيدالقار حيث مطعم المرسى الفاخر للأسماك ومايجود به البحر الذي يقدم وجبات السمك المتوارثة في المجتمع الكويتي منذ الأزل ، ومنذ أن ولجنا الى الدرج المؤدي إلى السرداب حيث المطعم أستوقفتنا جداريات موشاة بزخارف تحاكي البئية الكويتية ، ومجموعة كبيرة من الصور توثق لمراحل التنمية الكويتية عبر تاريخها ، والسفن التي تمثل الماضي بكل أنواعها أمثال (السنبوك ) (والبوم ) (وبغلة) ( وشوعي ) وغيرها ، وصور للأدوات التي يستخدمها البحارة القدماء ، وصور للأحياء القديمة ، والحياة العامة ليوميات الأنسان الكويتي ، مروراً بالصور التي توثق لبداية مرحلة التخطيط والتنمية التي بدأت تاخذ شكلها الحالي منذ أواسط الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي .
في داخل مطعم المرسى كأنك في زيارة إلى الماضي ، الجداريات ، الأضاءة أطباق الزبيدي ، والبالول ، وأصناف الأطباق الأخرى المتصالحة مع لمسات المعاصرة ، قضينا ساعات جميلة وكنا آخر من غادر المطعم لاعجباً رأيناه إلا ذلك الكرم وتلك الأريحية التي يحفنا بها مضيفونا أكرمهم الله .
لابد من ( أفينيوز ) وان قرب السفر !
في صباح الخميس كانت الأمطار الخفيفة تلطف القلوب وتسبغ الأجواء بالرحمة ، أقترح علينا أبو مساعد أن يكون الأفطار في ( شوكليت بار ) فوصلنا إليه ولم نستطع - من كثرة الجالسين - ان نلقى مكاناً تحت المظلات الخارجية ، وفي الداخل كانت الطاولات تزدحم بالبشر ، أخذنا مكاناً بين هذه الجموع ، ولكني أقترحت على أبي مساعد الذي يكرم ضيفه بكل التفاصيل - أقترحت أن نتناول فطورنا في الافينيوز ذلك السوق الضخم الذي لاتكفي الأحاطة به جولةً ولا جولتان.
وافقني أبو مساعد الرأي وتناولنا أفطارنا في الافينيوز وصلينا الظهر ، وبقينا في هذا السوق الجميل حتى الرابعة عصراً ، لأننا على موعدٍ مع الرجل الكريم بدر بن خلف الدلبحي العتيبي الذي أصر علينا بالعشاء الى الدرجة التي لم نستطع معه أن نعتذر ولو بكلمة ، فوجدنا أنفسنا أمام أصراره طائعين . وبرفقة أبن العم الدكتور عبدالعزيز وأبنه مساعد متشرفين و أتجهنا إلى حيث يقيم مضيفنا .
في منزل بدر بن خلف العتيبي أمسية شعرية .... ومشاعر كبيرة :
بلطف منه والتفاف حميد من قبله أهتبل صديقنا براك العتيبي فرصة وجودنا في الكويت وأبى إلا أن يمارس كرمه العابر للحدود ، فأوعز إلى خالة بكل ثقة بأن يستقبلنا في بيته ويضيفنا ، لا أخفيكم أنني في البداية عتبت على صديقنا براك ، ولكنني حين رأيت أريحية أبي ناصر باركت من قلبي خطوة براك ، قمة الكرم أن يستقبلك بحفاوة من لم تجمعك به سابق معرفة ، وفي زمن البراجماتية المسعورة ، والعلاقات المرتبطة بالأنا المقيت تجد مثل هذا الرجل الذي لازال يستقي الشهامة العربية من جذورة التي لم تجففها عصور الجفوة والمنفعة ، ليثمر أبو ناصر - أكرمه الله - ترحاباً وكرماً
تــراهُ اذا ماجئتَــه متـهــلّلاً
كأنّك تعطيهِ الــذي أنتَ نائلُــه
ولوْ لمْ يكنْ في كفّهِ غيــرُ روحهِ
لجادَ بهــا فَلْيتّقِ الله سـائـلــه
ترى الجندَ والأعـرابَ يغشونَ بابَهُ
كما وردتْ طيب الصفات نواهلــهُ
في منزل بدر العتيبي كان للشعر حضوراً لايطغى عليه إلا حضور ناصر بن دغش صديقي الشاعر الذي تسلطن حتى أبهر ، وتألق حتى نال تفاعلاً لايجده الشاعر إلا في مثل هذه المجالس التي تتستند على الذوق وتتسضي بالذائقة ، وتتوهج بالكرم والأريحية و بعد عشاءٍ فاخرٍ في المجلس الفخم الفاخر أختتم صديقنا الشاعر بهذه الأبيات التي أرتجلها والمناسبة :
الطيب جا باصوله
من جيت انا لخواني.
اكتاب نور فصوله
بومساعد اصلاً باني.
براك اهو مسؤله
وخاله عزيز الشاني.
البدر فارع طوله
بالعز والاحساني.
بوناصر فعل وقوله
للاجنبي والعاني.
بالطيب وصل اسطوله
لاخر قرى العتباني.
نتمنى أن تجمعنا الأيام بهذا الرجل النادر والفارع الطول والطولة ، وأن يتفضل علينا بالزيارة يوماً .
اللقاء القادم : وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الكويتُ تلفت القلبُ !