وادي عبقر هو أحد أودية جزيرة العرب لكن موقعه غير معلوم ؛ لذلك تعددت الأقوال بشأن موقعه ومكانه ؛ فمنهم من قال يقع بالحجاز قرب مكة المكرمة ؛ وبعضهم قال يقع في نجد ؛ وآخرون قالوا يقع في بلاد اليمن .
وبرأيي أن وادي عبقر ربما يقع في السراة ضمن موطن قبائل بجيلة الحجازية إستناداً إلى فرضية أن الوادي يقع أسفل جبل عبقر الذي بديار قبيلة بجيلة والذي لُقب باسمه سعد بن أنمار أحد أجداد القبيلة ؛ حيث تذكر المصادر أن أنمار تزوج بجيلة بنت صعب بن سعد المذحجي ، فولدت له ولد سمتهُ باسم جدها (سعد) ولُقب بعبقر لأنه ولد على جبل بديارهم يقال له عبقر . وجبل عبقر هو نفس الجبل الذي ورد ذكره بقصة إهداء الصحابي أسد بن كرز القسري البجلي قوساً للرسول ﷺ بحضور رجل من ثقيف ، فقال له : يا أسد من أين لك هذه النبعة ، فقال : يا رسول الله تنبت بجبلنا بالسراة ، فقال الثقفي : يا رسول الله هل الجبل لنا أم لهم ، فقال الرسول ﷺ : بل الجبل جبل قسر وبه سمي أبو قسر : عبقر .
والمعلوم من المراجع أن أبو قسر هو (سعد) ويشتهر باسم (عبقر) ؛ والثابت أن بنو قسر بن عبقر (سعد) بن أنمار هم أكبر وأشهر بطون قبيلة بجيلة الأنمارية الحجازية ومنه عدة أعلام ومشاهير على رأسهم الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه الذي نُسبت إليه رواية في أيام الجاهلية عن قوم من الجن يقيمون في وادي كما سيأتي فيمابعد .
وعن وادي عبقر تُحكى أساطير وروايات في كتب الأدب والشعر ؛ فقيل أن سكان الوادي قبائل من الجن والشياطين وأن مشاهير شعراء الجاهليه قضوا وقتاً في الوادي بضيافة شاعر جني فأصبحوا من فطاحلة الشعراء ؛ وزعم بعض العرب الأوائل أن وراء كل شاعر من فطاحلة الشعراء شيطاناً بارعاً قادراً على إلهامه أشعاراً رائعة وقوافي عويصة ؛ فسموا لكل شاعر شيطان أو جني يلهمهُ الشعر المميز ؛ فقيل : مسحل شيطان الأعشى ، ولافظ شيطان أمرئ القيس ، وهادر شيطان النّابغة الذّبياني ... الخ .
ويُحكى عن معلقة الأعشى التي يقول في مطلعها (ودع هريرة إن الركب مرتحل) ؛ يُحكى أنها من شعر شيطانة (مسحل) ، والمراجع تذكر رواية جرير بن عبد الله البجلي التي قال فيها : سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه ، فجعلت أريده على أن يتقدم فوالله ما يتقدم ، فتقدمت فدنوت من الماء وعقلته ، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوهون عند الماء فقعدت ؛ وبينما أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويهاً منهم فقالوا : هذا شاعرنا ؛ ثم قالوا له : يا فلان أنشد هذا فإنه ضيف ؛ فأنشد : ودع هريرة إن الركب مرتحل ؛ إلى آخر القصيدة دون أن يخرم منها بيتاً واحداً حتى أنتهى منها ؛ فقلت له : من هو قائل هذه القصيدة ؟ ؛ قال أنا ، قلت : لولا ماتقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها قبل عام بنجران ؛ قال : فإنك صادق ؛ وأنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل صاحبه وماضاع شعر شاعرٍ وضعه عند ميمون بن قيس (هو الأعشى) . أ.هـ
مايهمنا من هذه الرواية أنها صادرة من بجلي يتحدث عن وادي تسكنه الجن أو الشياطين (قوم مشوهون) ؛ فقد يكون ذلك الوادي قريب من دياره وموطنه ، لذلك فأن هذه الرواية ربما تؤيد رأينا بأن (وادي عبقر) يقع بالسراة ضمن حدود موطن قبائل بجيلة الأنمارية ؛ والله أعلم .