يقول العلامة ابن خلدون الآتي :
اعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها ، فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال . وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد ، لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه ، وكأنه التحم بهم . ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر . وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم . وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك . ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة* لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه ، وقالوا هو فينا لزيق ، أي دخيل ولصيق ، وطلبوا أن يولي عليهم جريراً . فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة : "صدقوا يا أمير المؤمنين ، أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قومي ولحقت بهم" . فانظر كيف اختلط عرفجة (الأزدي) ببجيلة ولبس جلدتهم ودُعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم ، لولا علم بعضهم بوشائجه ، ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب ، ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود . أنتهى قول ابن خلدون
-------------------
* تذكر المراجع أنه عندما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسال قبائل بجيلة لفتح العراق بعد مصيبة أصحاب الجسر ، قال لهم رضي الله عنه سيروا لنجدة إخوانكم بالعراق وأنا أخرج إليكم من كان منكم في قبائل العرب فأجمعهم إليكم . فقالوا : نفعل يا أمير المؤمنين ، فأخرج لهم قيس كبة وسحمة وعرينة ؛ وكانوا في قبائل بني عامر بن صعصعة ، وأمر عليهم عرفجة بن هرثمة وكان حليفاً لهم من الأزد ، فغضب من ذلك جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، فكلمت بجيلة أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وقالوا له : استعملت علينا رجلاً ليس منا ، فأرسل عمر إلى عرفجة وسأله : ما يقول هؤلاء ؟ فقال : صدقوا يا أمير المؤمنين ؛ فأنا لست منهم لكني رجل من الأزد كنا أصبنا في الجاهلية دماً في قومنا ، فلحقنا بجيلة فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك . فقال له عمر : فاثبت على منزلتك ، ودافعهم كما يدافعونك . فقال عرفجة : لست فاعلاً ولا سائراً معهم ؛ فترك عرفجة بجيلة ورجع لقومه فأمره عمر رضي الله عنه على قبيلة بارق الأزدية ، وأمر على قبائل بجيلة جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه .